2012-11-16

الأكديون واللغة الأكدية .. الجزء الثاني


ثالثاً- أصول اللغة الأكدية :-

واللغة الأكدية بهذا المفهوم الواسع هذا تمثل الفرع الشمالي الشرقي من عائلة اللغات الجزرية ، وتضم هذه العائلة اللغوية مجموعة كبيرة من اللغات المهمة التي انتشرت وسادت معظم أنحاء الشرق الأدنى القديم منذ أقدم عصوره التاريخية وحتى الآن وهي اللغة الأكدية ، بلهجاتها ( البابلية والآشورية المختلفة ) ، واللغة الكنعانية بلهجاتها ، واللغة الآرامية بلهجاتها ، واللغة العربية الشمالية والجنوبية ، ويكاد يجمع الباحثون على أن الموطن الأول للأقوام التي تكلمت بهذه اللغات هي شبه الجزيرة العربية التي شهدت في عصور سحيقة في القدم استخدام ( اللغة الأم ) ومن ثم بدأت هجرات الأقوام العربية القديمة إلى خارج حدود شبه الجزيرة العربية . وكان من بين تلك الهجرات هجرة الأقوام الأكدية والبابلية ( الأمورية ) والآشورية إلى وادي الرافدين ، وقد تميزت لغات هذه العائلة اللغوية بجملة خصائص مشتركة منها :-
1- أن هذه اللغات تعتمد اعتماداً كبيراً على الأصوات الصامتة ( الصحيحة ) لا على الأصوات المتحركة ( العلة ) ، أي أن المعنى الرئيس للكلمة يرتبط بالأصوات الصامتة فيها ، أما الأصوات المتحركة فهي لا تعبر في الكلمة إلا عن تحوير هذا المعنى وتعديله .
2- تزخر هذه المجموعة من اللغات بالأصوات الحلقية كالعين والحاء والهاء والأصوات المضخمة كالصاد والطاء .
3- ترجع معظم المفردات اللغوية إلى أصل أو جذر ثلاثي ، وهناك بعض المفردات ذات أصول ثنائية .
4- ليس في هذه اللغات إلا جنسان هما المذكر والمؤنث .
5- هناك ظاهرة غريبة من حيث العلاقة العكسية بين العدد والمعدود من الثلاثة إلى العشرة ، أي يذكر العدد إذا كان المعدود مؤنث ، ويؤنث العدد إذا كان المعدود مذكر.
ومع هذه الخصائص المشتركة بين أفراد اللغات الجزرية هناك اختلافات فرعية أملتها كل لغة من هذه اللغات والتأثيرات التي تعرضت لها والحياة التي عاشتها . 

رابعاً – تاريخ اللغة الأكدية :-

تشير الدلائل الأثرية والنصوص المسمارية إلى أن الأقوام كانت قد سكنت القسم الأوسط والجنوبي من العراق منذ أقدم العصور التاريخية المعروفة وربما منذ أواخر عصور ما قبل التاريخ ، غير أنها لم تتمكن من السيطرة على زمام الحكم والسلطة السياسية حتى القرن الرابع والعشرين قبل الميلاد . ومن هذه الدلائل أن أسماء العديد من حكام وملوك المدن السومرية في عصور فجر السلالات إلى قيام الدولة الأكدية وردت بصياغة أكدية ، ومنذ قيام الدولة الأكدية ، دخلت اللغة الأكدية طوراً جديداً حيث بدأ استخدامها في تدوين النصوص التاريخية والمعاملات اليومية وغدت لغة الدولة الرسمية إلى جانب اللغة السومرية ثم أخذت تحل محل اللغة السومرية شيئاً فشيئاً غير أنها لم تقض عليها بل ظلت اللغة السومرية مستخدمة في النصوص الأدبية والعلمية والدينية إلى أواخر أدوار الحضارة العراقية القديمة .
وكان الاحتكاك بين اللغتين السومرية والأكدية ، وكلتاهما تحتل مكانة وأهمية في نفوس العراقيين القدماء ، فإلى جانب تأثر كل من هاتين اللغتين بالأخرى تأثيراً واضحاً من حيث استخدام المفردات والمصطلحات الفنية والقانونية ومن حيث أساليب التعبير بل وحتى القواعد النحوية ، فقد كان لهذا الصراع أثره في تحفيز الكتبة الذين استخدموا اللغة السومرية أو اللغة الأكدية على حد سواء أو الكتبة الذين عكفوا على استنساخ النصوص القديمة إلى تأليف قوائم أو جداول لتعليم المبتدئين العلامات المسمارية المختلفة وقيمتها الصوتية ومعانيها الرمزية في كل من اللغتين السومرية والأكدية ، وكانت تلك القوائم والجداول التي تطورت فيما بعد لتسجيل مفردات لغوية سومرية إلى جانب معانيها باللغة الأكدية أو مصطلحات لغوية فنية أو قانونية أو جمل وعبارات سومرية وإلى جانبها معانيها باللغة الأكدية أولى المحاولات في تأليف المعاجم اللغوية ، وقد أفادت هذه المحاولات الباحثين المحدثين كثيراً في فهم ومعرفة ما غمض عليهم من مفردات اللغة السومرية أو الأكدية .
وعلى الرغم من سقوط الدولة الأكدية وسيطرة الأقوام الجوتية الغازية على بلاد أكد وتسلمها زمام الحكم لفترة تزيد عن مائة سنة ، إلا أن اللغة الأكدية ظلت اللغة المستخدمة إلى جانب اللغة السومرية في المعاملات الرسمية والخاصة ، ولم يؤثر على اللغة الأكدية غزو القبائل الجوتية التي لابد أن تكلمت لغة أجنبية غريبة في بداية أمرها إلا أنها ما لبثت أن استخدمت اللغة الأكدية حتى أن أسماء العديد من الملوك الجوتيين جاءت بصيغ أكدية ، وتشير الرقم الطينية التي ترقى بتاريخها إلى عهد سلالة أور الثالثة التي قامت في أعقاب طرد الأقوام الجوتية من بلاد أكد ، إلى انتعاش اللغة السومرية على حساب اللغة الأكدية نظراً لأن حكام سلالة أور الثالثة كانوا من الأقوام السومرية فدونت لذلك معظم نصوصهم الملكية باللغة السومرية . ومع ذلك ظلت اللغة الأكدية تحتفظ بمكانة بارزة إلى درجة أن ثلاثة من حكام هذه السلالة السومرية كانوا يحملون أسماء ذات صيغ أكدية .
وبتدفق الأقوام الأمورية نحو بلاد بابل - وهي من الأقوام الجزرية القديمة التي قدمت لبلاد بابل – اتسع نطاق استخدام اللغة الأكدية حيث هذه الأقوام التي انتشرت في العراق في أعقاب سقوط سلالة أور الثالثة وأسست لها عدداً من الدويلات والممالك المهمة التي انضمت تحت حكم سلالة بابل الأولى في عهد ملكها الشهير حمورابي ولم تستخدم لغتها الأمورية التي تنتمي هي الأخرى إلى عائلة اللغات الجزرية ، بل استخدمت اللغة الأكدية بلهجتها البابلية القديمة في جميع المكاتبات والمعاملات الرسمية والشخصية وإن المعلومات عن اللغة الأمورية مستمدة من بعض المفردات والمصطلحات والصيغ اللغوية التي دخلت اللهجة البابلية القديمة ، لاسيما في منطقة ماري ( تل الحريري ) ، وفي أعقاب سقوط سلالة بابل الأولى على يد الكشيين ، فقد شاع استخدام اللغة الأكدية خلال حكم السلالة الكشية ، الذي استمر أكثر من أربعة قرون .
وفي بلاد آشور ، استخدمت اللغة الأكدية منذ أقدم العصور التاريخية ، وقد تميزت اللهجات التي انتشرت في بلاد آشور بخصائص معينة . وظلت اللغة الأكدية بلهجتها البابلية الحديثة والمتأخرة ( الكلدية ) ، تستخدم في عهد الدولة البابلية الحديثة ( 626 – 539 ق.م ) ، غير أنه بدأ تأثير اللغة الآرامية يزداد شيئاً فشيئاً إلى أن وصل انتشار استخدام اللغة الآرامية في بلاد بابل وآشور أن قضى على اللغة الأكدية وتلاشى استخدامها وحلت محلها اللغة الآرامية بخطها الأبجدي البسيط مقارنة مع الكتابة المسمارية المعقدة .
وعلى الرغم من وقوع بلاد بابل وآشور لفترة طويلة من الزمن تحت الحكم الأجنبي الفارسي الأخميني ثم المقدوني والسلوقي فالفرثي فالساساني ، وانتشار اللغة الفارسية في فترة الاحتلال الفارسي واليوناني فترة الاحتلال السلوقي ولاسيما في أوساط النخبة الحاكمة والمتنفذة ، إلى أن اللغة الأكدية ظلت تستخدم ولكن في نطاق محدود حيث استخدمت في تدوين بعض النصوص الدينية والعلمية والفلكية والرياضية ، وظلت كذلك حتى أواخر القرن الأول الميلادي حتى بطل استخدامها واستخدام الكتابة المسمارية نهائياً ودخلت طي النسيان لمئات من السنين إلى أن تم الكشف عنها ثانية في العصر الحاضر .

يتبع ....

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق

LinkWithin

Related Posts Plugin for WordPress, Blogger...